قال ابن القيم : إن الله – تعالى – خلق الدور الثلاثة : دار الدنيا ودار البرزخ ، ودار القرار : وجعل الله الحياة في دار الدنيا تسري على الأبدان والأرواح تبعاً لها ، وجعل الله الأحكام في دار البرزخ ، تسري على الأرواح والأبدان تبعاً لها ، وجعل الأحكام في دار القرار تسري على الأرواح والأبدان معاً .
فسر المسألة في حياة البرزخ أنم نور القبر وناره وسعة قبره وضيقه ليس من جنس نور الدنيا ونار الدنيا ، وليس من جنس سعة وضيق الدنيا .
وقد ترى الرجلين في فراش واحد في حياتنا الدنيا يستيقظ أحدهما ، وتبدو عليه معالم وآثار النعيم ويقول لك : لقد كنت مع النبي r الليلة الماضية ، أو يقول : قد رأيتني الليلة الماضية في الجنة ورأيت كذا وكذا ، تبدو عليه آثار النعيم ويستيقظ الآخر في ذات الفراش وعليه آثار العذاب والآلام ويقول : إنه والعياذ بالله قد عاين جهنم أو رأى كذا وكذا ، أو رأى كابوساً ، كاد يخنق أنفاسه .
الرجلان في فراش واحد الأول في نعيم والآخر في آلام وعذاب ، لا يشعر أحدهما(1) بالآخر ، هذا في عالم الدنيا فما يحدث في عالم البرزخ أعجب من كل ذلك بكثير ، فكل ما دار ببالك ، فحياة البرزخ بخلاف ذلك ، لا يعلم حقيقته ملك مقرب ولا نبي مرسل .
ونحن ندين الله – جل وعلا – بأن حياة البرزخ إما أن يحيا أصحابها في نعيم دائم، إلى يوم القيامة ، إما أن يعيش أصحابها في عذاب لا يعلم وقته إلا الله، نسأل الله أن يجعلنا من أهل النعيم في الدنيا والآخرة .
وبعد البرزخ بعث ، لا تستكثر الأمر على الله ، فالله – جل وعلا – على كل شيء قدير، أمره – جل وعلا – بين الكاف والنون: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس/82] .
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أنه r قال: ((كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: يا أولادي إذا مت فحرقوني ، حتى إذا صرت فحما فاسحقوني، فإذا كان يوم ريح عاصف فاذروني)) .
وفي لفظ في الصحيح : (( فأذروا نصفي في البر ونصفي في البحر فإن قدر علىّ ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحدا من العالمين )) قال رسول الله r: (( فلما مات فعل به بنوه ذلك فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر الله البر فجمع ما فيه ثم قال الله له : كن فإذا هو رجل قائم بين يديه – جل وعلا – فقال له ربنا : ما حملك على ذلك ؟ قال مخافتك يارب )) وفي لفظ: ((خشيتك يارب وأنت أعلم)) قال النبي r: ((فغفر الله له بذلك)) .
الله – جل وعلا – قادر على أن يبعثك ، لأنه خلقك ولم تك شيئا .
روى البخاري وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي r قال: (( قال الله تعالى – في الحديث القدسي : كذبني ابن آدم ، ولم يكن له ذلك وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك أما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني – قال – وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته ، أما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد )) ([1]).
وقد ضرب الله لنا بعض الأمثلة في القرآن على البعث بعد الموت فهذا العاصي العاص بن وائل الذي جاء بعظام بالية ، يفتتها يوما بين يديه أمام رسول الله r وهو يقول: يا محمد أتزعم أن ربك يحي هذه بعد ما صارت رميما فقال له النبي r: ((نعم يميتك ثم يبعثك ثم يدخلك جهنم)) فنزل قول الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ{77} وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ{78} قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [ يس / 77-79] الآيات .